حينما كنا صغار، كنا نسأل آباءنا عن مقدار حبهم لنا، فيقولون: «قد الدنيا وقد البحر»، ثم يعودون ويسألون عن مقدار حبنا لهم فنقول: «قد الدنيا وقد البحر»
، ومن هنا نما لأعيننا يقين بأن الدنيا كبيرة واسعة وأن البحر هو تمام الاتساع، وحينما كبرنا قليلاً اكتشفنا أن الدنيا ضيقة وأن أجواءها خانقة،
وأن الحياة فيها تأتى دوماً بما لا تشتهى الأنفس، لكن البحر ظل «البحر» واسعاً شاسعاً رحباً وفسيحاً، لكن للأسف- ويا لكثرة الأسف- لم يبقَ البحر على حاله، وصار هو الآخر مثل الدنيا الضيقة، لا يرحم المستضعفين، ولا يربت على كتف لاجئ،
صرنا نموت فى البر، كما نموت فى البحر، نموت نموت ويحيا الوهن، هنَّا على الدنيا فهانت علينا الدنيا، وليست مركب رشيد الغارقة فى عرض البحر سوى صورة مكثفة لما نمر به يومياً من مآسٍ وصعاب، وليس فى قسوة البحر وجبروته على الفارين من جحيم الهواء الفاسد من جديد على من صار الفساد فيهم خلقة وفطرة.
ترى هل نستطيع أن نكذب مرتاحين، ونقول لأبنائنا إننا نحبهم «قد البحر» بعد أن ضاق البحر على المصريين وابتلع شقاءهم وأحلامهم؟ ترى هل نعزى أهالى الضحايا أم نعزى وطن الضحايا، أم نتقبل العزاء فى وطن كان مهبطاً للأنبياء فصار قبراً للأبناء؟
ترى هل تجدى المناقشات والتحليلات والتحقيقات وتبادل الآراء ووجهات النظر بعد أن صار لكل منا خنجراً يمده فى صدر أخيه دون وخز من ضمير أو مراجعة من عقل؟ ترى هل يستطيع هذا الوطن أن يحلم بخروج آمن من نفق الموت فى حين أن كل أزمة يتعرض إليها تتحول من مناسبة للتلاحم واختبار للـ «المعدن الأصيل» إلى ساحة رماية لا يتورع فيها أحد بأن يلقى الآخر بكل ما لديه من زخائر التخوين والتحقير والتشكيك والرمى بالباطل؟
نموت نموت ويحيا الوهن ليضرب فى كل شىء، فيموت كل شىء، وهن فى العيون، وهن فى الأبصار، وهن فى الحلم، وهن فى الدولة ومؤسساتها، وهن فى الأمل، وهن فى العزيمة، وهن فى الحاضر، وهن فى الآتى، وهن فى الضمائر، وهن فى الثقة، ضربنا الوهن فصرنا ضعافاً
، ولم تعد أرض الله واسعة لنهاجر فيها، ولم يعد البحر واسعاً ليفرش لأحلامنا بساطاً بزرقته الشاسعة، إذ تضاءل كل شىء ولم يتسع إلا الضيق.